|
|
قصة الاسبوع
الركــض
أحمد ربيع الأسواني
خليط من رمادية الطين وخضرة البرسيم وصيد البراري الجافة هو وجه بسطاوي المنحوت من الحدة.. كفاه هما أقصى ما في الخشونة من خشونة وأهداب لم يفلح الاغتسال على عجل في محو آثار الاسمنت عنها كذلك رذاذ الجير والطلاء العالق.. عنق يشرأب كصارٍ هو عروق وعظم ودوائر رمل تلتف وعينان تفرغان من احتواء كل ما حولهما دفعة واحدة.
يهبط بسطاوي من الحافلة.. يعطي ظهره للشمس الراحلة عن مدينة جدة..يتمطى يحدق في ارتال المركبات المنسابة..يندلق فجأة عبر الطريق ركضاً صوب الجهة الأخرى حيث المقهى.. تصدر عن كوابح العربات أصوات متباينة وتطل منها وجوه حانقة.. ما عدا وجهته لا يعر بسطاوي انتباه البصر.. الى أحد المقاعد يلقي بعوده الفارع كنخلة الجروف..على مهل يمارس التخلص من اللهاث ونبح المفاص..يهدأ عبر جلبابه الصعيدي الفضفاض.. تتخلى احدى قدميه عن زنوبتها المتآكلة.. يتأوه وهو يرفع الساق ببطء ليريحها فوق الأخرى فتتقلص أخاديد الوجه وتنحجر الشفتان..يزفر بحرقة..ينفضها ثم يوسدها التقاء البطن بالفخذين..يشرع ذراعيه في الهواء ثم يصفق..
- براد شاي مصري ثقيل وحجر.
ينظر إلى ساعة معصمه الضخمة وبطرف كمه يزيل عنها الغبار لا يزال أمامه متسع من الوقت للقيام برحلة أخرى..يفصل سمعه عن هدير آلة التسجيل وثرثرة خليط اللغات من حوله..يروغ ببصره صوب تلامع زجاج البنايات الشاهقة وأشعة الشمس..يتأمل علوها وضخامتها..يدع أنامله تعبث بشاربه الكث ولحيته النامية.. يتحسس جيبه.. يستحوذ على نفسه ويدميها بسؤال كل لحظة.. وآخرتها معاك يا بسطاوي؟ هي المرة الرابعة التي يعود منها حيث يلتقطونه بسياراتهم من على القهوة.. أعمال سريعة منذ الصباح تحميل وتنزيل.. بناء وهدم تعال يا ولد روح يا ولد.. يجوبون به أزقة المدينة وضواحيها من أقصاها إلى أقصاها.. يمارس كل المهن التي تستلزم الركض والنضح واللهاث.. ستعدم الغربة عافيتك يا بسطاوي. يستل من جيبه رسالة قديمة مبللة بالعرق والأوساخ سبق له أن قرأها عشرات المرات.. يتهجى الحروف.. يقرأ.. وكلما قرأ سطراً يسترخي في جلبابه أكثر.
الغربة جبل صوان يا بسطاوي يجثم فوق الصدر كالكابوس.. تشيع الضجر الى حد الانفلات صوب الميناء أو البكاء بعيداً عن عيون الصحاب.
- قالوا ايه اللي رماك على المر.. قلت اللي أمر منه.
- وهيبة تأبى أن تفارق الخيال ولو لحظة.. هناك كجرة العسل على ضفة النيل تنتظر وتحلم بليلة الدفوف والمزمار والزغاريد وعيارين في الهواء من بندقية شيخ الخفر.
- خلخال فضة وكردان ذهب بدلاية وسلامتك يا بسطاوي.
حلفت أمك أن تعد من أجلها (ماجور) حناء ستكسوها به من مفرق الشعر حتى بطن القدم..ستحيل سمارها يا بسطاوي الى صفار الكركم..يتهجى.
- قطيفة (زبدة فرنساوي) وملس أسود وجلابية (العتبة قزاز).. أوعى تنسى يا بسطاوي.. أنسى قال!! آه زينة البنات لولا جواباتك ولمة البلديات في آخر الليل والعوزة!
تعبق جوانح بسطاوي برائحة الطين والنوار.. يعج سمعه بأ÷ازيج النيل وخشولة القصب ومواويل الرفاق المشروخة بالتعب وهمس الصبايا الناعس أمام الدور ساعة العيشة..
تحلق حواسه مع تمنيات وهيبة المختلجة وهي تخفى وجهها خلف ظهر أمه لحظة الرحيل ثم وهي تناوله كفها المرتعش بسخاء..
- ترجع لي سالم وغانم يا ولد عمي ويكفيك شر الطريق.
فقط مهرك وتكاليف فرحك يا ست العرايس وغرفة من الطوب النى وجاموسة ولادة وأقول يا عالم تعالوا شوفوا العز!! نساء من كل لون وجنس غالي ومجوهرات وحلي تبرق يتسكعن أمام واجهات المعارض.. يعبرن بأبصارهن النهمة كرنفال الأزياء والتكنولوجيا والعطور.. مثل الشمع وعيدان الخس جعل من هن الظل ومكيفات الهواء.. جميلات بالراحة وانعدام الهم الى هد الهوس.. ليس ثمة حقول يلطخن طينها أو جاموس يجمعن روثه قبل شروق الشمس.. كذلك لا صقيع يشقق الوجوه أو حر صيف يلفح.. أكف عاجية ناعمة وخدود تلمع وأصباغ تلعلط أجملهن يا بنت العم لا تقترب من ملء أذنك نخالة.. آه لو أورثني عمك قيراطاً من الطين أو بهيمة عليها القيمة أو حتى علمني صنعة.. لم يترك لي سوى الكتف والزند وزمان أغبر.
يشرب بسطاوي الشاي الأسود محدثاً صخباً.. يعود للرسالة يتهجى. من يوم سفرك معدتش أروح حدا القناية القبلية..
توقفت سيارة.. يسرع بسطاوي بدس الرسالة في جيب صديريته على عجل.. يتحفز فينفخ الصدر ويبرم الشارب.. من جوف السيارة يطل وجه رطب يعلوه عقال.
يا ولد.
حول السيارة وفي لمح البصر تتكدس السحنات الكالحة كالعادة..
- أنا يا عمي.. أنا يا عمي.
- اصعد أنت.
يفوز بسطاوي برحلة الركض الخامسة. يتراجع الباقون. يتبعثرون. تحتل كلمات أمه عندما كانت تتلقفه بين ذراعيها لدى عودته من الترحيلة.
- يا ولدي ما دام هناك العود..اللحم يعود.
ليس على مراحل يلقى بسطاوي بطوله الى حوض السيارة.. يرتطم الرأس بحافة الحوض.. يصرخ. نحوه لا يلتفت أحد.. تتحرك به العربة للمرة الثانية في غضون دقائق وهو يتحسس عظام الجمجمة يستل من جيبه الرسالة. يتهجى الحروف ويهدأ في جلبابه الفضفاض.